الجمعة، جمادى الآخرة ١١، ١٤٢٧

علم العلم " الابستمولوجيا " – أفكار حرة



عندما يدرس الطالب علما لا فائدة عملية ترجى منه- أو هكذا يبدو بالنسبة إليه فإنه يفقد مقدارا من الانتباه والتركيز والاهتمام سينعكس ولاشك في مدى استيعابه وإدراكه وتركيزه في هذه المادة أو ذلك العلم فهل كانت هناك جهود " منهجية " وأركز على كلمة منهجية لتجاوز هذه المشكلة ؟
فهل الطالب معذور في أن يعرض عن تعلم مادة لا يراها مفيدة ؟أو أن تطبيقها لا يضيف لحياته شيئا؟ وهل يجب أن يكون ما ندرسه متصلا بواقعنا ؟وأن يتضح للدارس متى سيحتاج أو سيطبق هذه المعلومة وكيف ؟. وما فائدة دراسة المعلومة منفصلة عن ثمرتها وفائدتها؟ أليست عندئذ أشبه بلعبة سمجة لا طعم لها ولا متعة فيها ؟ ، خاصة في تلك العلوم التي لسنا من يخترع أو يطور فيها أو التي لا نلاحظ أثرها المباشر علينا ؟!!.
هناك فرع من العلوم يسمى بـ" علم العلم" أو الابستمولوجيا (epistemology)ويطلق عليه أيضا علم المعرفة أو المعرفية ، أو فلسفة العلوم .
و الابستمولوجيا هي العلم المتخصص في درس كيفية تكوين المفاهيم وتحولها ، وكيفية تبادلها بين علم وعلم ، وكيفية تشكل حقل علمي. ودراسة الأحكام والقواعد التي يعاد بمقتضاها تنظيم المفاهيم للعلم.
ويتناول هذا العلم البحث في أهداف العلوم وحدودها وعلاقاتها ببعضها البعض
والقوانين التي تحكم تطورها
وفلسفة العلم أو ابستمولوجيا العلم ليست جزءا من العلم ذاته
لأن فلسفة العلوم تأتي في صعيد وحدها لأنها حديث عن ذلك العلم وتعليق عليه وقول عنه ، فعندما نقول عن علم الاجتماع أنه علم وصفي لا يكون هذا القول من علم الاجتماع وداخل ضمن قضاياه بل حديث عن علم الاجتماع، ويتناول علم العلم أز فلسفة العلم الموضوعات التالية :
1- الأسس النظرية لكل علم
2- المبادئ العامة لكل علم
3- ظروف تبلور كل علم وتطوره
4- أساليب كل علم
وهذه المباحث هي تقريباً ماكان يسمى في تراثنا العلمي بالحدود العشرة لوصف العلوم والتي تعنى بالأساس بوصفها وصفاً يحدد جوانبها ومجال عمل كل منها ، ونجد أن الأسئلة العشرة تلك هي عموما ما نسميه اليوم بالوصف الابستمولوجي للعلم تم تجميعها في الصورة المعاصرة الت يتتناولها الجوانب الأربعة المذكورة.

ولأن فلسفة العلوم ليست داخلة في قضايا العلم فقد يكون من المناسب أن توكل هذه مهمة الحديث عن العلم ووصفه إلى المرشد التعليمي أو الأكاديمي في المدارس، والمرشد الأكاديمي للأسف عادة ما يدمج دوره خطئا وتجاوزا مع المشرف أو المرشد الاجتماعي ، الذي مهمته بالاساس رعاية ومتابعة القضايا الاجتماعية والنفسية لدى الطلاب، ومسؤولية المرشد التعليمي معرفية بالأساس .
فلو أن المرشد الاكاديمي أسندت إليه مسؤولية تثقيف الطلاب بماهية العلوم وفوائدها ، وتم دعم مهمته منهجيا من خلال فصل او مقدمة في كل كتاب أو عن طريق كتيبات ونشرات ووسائط تعطى كل الاهتمام من إدارة المدرسة ومن مسؤولي النشاط، لاستطاع أن يسد الفراغ الذي يشعر به الطالب والذي شعرنا به جميعا بين ما ندرسه وما نعيشه.


و ذاكرتنا التعليمية في مجال فلسفة العلوم أو ابستمولوجيا العلم لا تحتفظ إلا بنموذج واحد من مناهج الدراسة فيما أذكر هو مقدمة مقرر التجويد للصف الرابع الابتدائي حيث وردت نصوص تتحدث عن علم التجويد وطولبنا بحفظها وتسميعها دون أن نعي أو أن يشرح لنا المراد منها ،" ماهو علم التجويد من وضعه وما حده وما ثمرته وما غايته وماحكمه ...إلخ" ، ولكن أكرر لم تكن المسألة منهجية ولم تشرح في هذا الإطار ، فلم نكن ندرك أصلا أن الهدف من هذه الأسطر هو أن نعرف فائدة ما ندرس ، وكان ذلك مثالا يتيما انفردت به مادة التجويد ولم يعمم على بقية المواد الجديدة لكي توصف به المادة قبل البدء في دروسها وقضاياها.
ولا يفهم أن إدراجنا للابستمولوجيا كتطبيق يعني أن نضيف للطلاب مادة أخرى ، ولكننا نرى أن من المهم قبل البدء في تخصص أو دراسة مادة جديدة، أن يكون الطالب أو الدارس على علم بما يدرس وما هي بيئة عمله وفضاءات بحثه مستقبلا وهذا ما تقدمه المباحث الابستمولوجية أو التي يتطرق إليها علم العلم.

إننا كثيرا ما نعاني من ضياع المواهب الواعدة واتجاهها إلى غير المجال الذي أوتيت الموهبة فيه ، فالطالب الموهوب في مجال الكيمياء والتجارب والخواص والذي يتمتع بولع في هذه الجوانب، سيجد أنه مضطر للنظر إلى المهن اللامعة ذات المناصب الرفيعة عند اختياره للتخصص مما سيجعل منه متجها بشكل مباشر للفرع الذي سيصب به في الطب أو الهندسة ، وذلك معناه خسارة الوطن لموهبة فذة في مجال حيوي وهام.
أما إذا كان الطالب موهوبا في جانب التحصيل وحصل على درجات عالية ، فستجده ملزما تصريحا أو تلميحا بالاتجاه في خط معين . واختيار تخصص معين.
لذلك فإن المرشد التعليمي هو الشخص الذي ينتظر منه أن يتقدم لإدارة كل مدرسة بخطة واضحة ومدروسة لتوعية الدارسين بقضايا تتعلق بفوائد العلوم ومستقبلها وطبيعة عملها والفروق بينها.
على الأقل يجب ألا يصل الطالب لمرحلة اتخاذ القرار في مسألة التخصص والذي هو قرار مصيري بالنسبة له ولمستقبله ، حتى يكون لديه فكرة واضحة عن فائدة العلم وموقعه من العلوم والتقنية الحديثة.

وحتى نصبح مجتمعا علميا يجب أن نهتم بهذه المجالات الأربع الآتية وأن ندمجها قدر المستطاع في حياتنا وفي مناهج تعليمنا ومناهج التدريب وفي طروحاتنا الفكرية والتربوية بل حتى في انشطتنا الترفيهية وهذه المجالات أو العلوم هي :
1- علم المنطق ، أو التفكير المنطقي، وفيه يتعلم المرء أسس التفكير وكيفية بناء الفروض والتحقق والبرهنة وما يصح تبنيه وما ليس لايمكن التأكد منه، وهذا مهم في صناعة الإنسان المفكر
2- الابستمولوجيا،أو فلسفة العلوم وتوصيفها والتفريق بين مجالاتها وبيئات عملها. وهي مهمة في صناعة الإنسان الموضوعي
3- الميثولوجيا، علم مناهج البحث ، وفيه نعرف طرق البحث في كل نوعية من العلوم وكيف نصل للحقائق في هذا المجال ، فالباحث في المجلات الأدبية يستخدم مناهج وتقنيات وأساليب تختلف عن الباحث في الفيزياء مثلا. وهذا مهم في صناعة الإنسان المنهجي
4- تقنيات بحثية مثل ، مصادر المعلومات وحقول المعرفة ،وهذه مهمة في صناعة الإنسان العلمي.
فبتأسيس التفكير على المنطق السليم وكيفية إثبات الحقائق والحكم على معقوليتها ( وهو ما يقوم به علم المنطق)، ثم بمعرفة العلوم وماهيتها والعلاقات فيما بينها وماذا تبحث وما الذي تتناوله ( وهو ما يقوم به علم فلسفة العلوم)،ثم بمعرفة طرق وأساليب البحث المناسبة لكل نوعية من البحوث( وهو ما يقوم به علم مناهج البحث) ، ثم بمعرفة بعض المفاتيح المهمة التي تفتح للمرء أبواب المعرفة من التعرف على التقسيمات الشائعة للمعارف البشرية وطرق الوصول لمصادر المعلومات، يمكن أن نوجد من خلال هذا المزيج ثقافة علمية منهجية متينة ذات أصول موضوعية ستكون أهم ما يرقى بالمجتمع وينهض بالأمة. وستكون جميع التطورات التنموية أمراً ميسورا وفي متناول الشعب العاقل المفكر المنطقي المنهجي الموضوعي، وستتلاشى مشكلات كثيرة تلقائياً ، إذ سيرتفع مستوى الخطاب المجتمعي تلقائياً.
وقد تبدو هذه الأفكار للبعض خيالية أو بعيدة التطبيق، ولكني أرى أنه يمكن لضمان ذلك أن تكون هناك مادة أساسية في جميع السنوات تدمج تطبيقيا في المواد التي تدرس في تلك السنة ، تسمى معرفة أو معلومات ، تعتني ببناء الدارس معلوماتيا واتصاليا وفكريا ،من خلال صوغ إدراكه للحقائق وتعامله معها.
وفي محاولة مبسطة وعامة فيمكن في كل مرحلة تكوين مجموعة مفاهيم تتناسب مع التطور الإدراكي والذهني للدارس.
المرحلة الابتدائية : مبادئ في حل المشكلات والتعامل معها ، العامل مع الكتاب، التساؤل
المرحلة المتوسطة : معلومات عامة عن المعارف البشرية – الاستدلال – مبادئ مبسطة في المنطق " تزامنا مع دراسة الإثبات والفرض في الرياضيات في هذه المرحلة " -
المرحلة الثانوية : مصادر المعلومات – التصنيف العشري العالمي للمعرفة - مبادئ في علم العلم – قواعد في المنطق مع تطبيقها
المرحلة الجامعية : مناهج البحث – أساليب في البحث العلمي.
ومما لا يخفى أن صياغة منهج في كل هذه الجوانب يتوافق مع طلاب مرحلة معينة يحتاج إلى جهد وخبرة ومراعاة لأن يخرج المنهج منسجما ومتساوقا مع بقية الحقيبة التعليمية والأهداف المعرفية لكل مرحلة. كما أن دور الأهل يجب ألا يعول عليه كثيرا في تحقيق هدف هذه الفكرة لأن ثقافة الأهل والبيئة الخارجية هي المستوى الذي تهدف هذه الفكرة لتجاوزه والتفوق عليه.
ولأب مثقف أن يصوغ لأسرته مجموعة من الأهداف الثقافية التي ترقى بابنائه إلى مستوى أرفع ، سيضعهم بلا شك في طليعة أبناء جيلهم ، وسيمكنهم من تجاوز الواقع الذي عاشه آباؤهم وأسرهم، فالعصر اليوم يتسارع في جنون ، وفي الوقت الذي تستلقي فيه لتريح أعصابك وتنام يتحرك أناس في مكان آخر من الكرة الأرضية إلى أعمالهم ليطوروا ويبتكروا ويضيفوا إلى العالم أشياء جديدة ، فلابد أن لاتضع أنت القرارات النهائية لأبنائك الذين سيعيشون في عصر آخر وسيواجهون تحديات مختلفة. فقط أعطهم المفاتيح،وجل أمامهم الصورة.

من أجل المستقبل
فكرة: المفكر

9 Comments:

Blogger abderrahman said...

مدونة راقية واختيار موفق لموضوعات مفيدة.
تحياتي .

٦:٢٢ م  
Blogger المفكر said...

شكرا جزيلا لك ويسعدني جداً تلقى نقدك وجميل اقتراحاتك

٨:٤١ ص  
Blogger Thamood said...

لا زالت مشكلة التعليم في البلاد العربية هي نفسها

مازالو يطبقون أسلوب الملعقة والحشو بعيدين كل البعد عن إستثمار العقول وكلامك صحيح حين ذكرت اننا حين درسنا المواد في المدرسة لم نعرف لماذا فالفيزياء مثل الاحياء و الكيمياء في النهاية كلها علوم ولم يشرح لنا ان الاحياء تختص بالكائنات الحية و او ماهي الفيزياء ومن اسسه

يا ناس حتى الرياضة لم نكن نعرف فائدتها ...كلها كانت لعب في لعب

في النهاية اشكرك على هذه المقالة الجميلة جدا وإلى الامام

١٢:١٢ م  
Anonymous غير معرف said...

رااائع جدا ياسيدي المفكر ...
أنا منبهره بحق من عقليتك الراجحه و المنظمه في إطلاق منهج معرفي كامل يحتوي كل النظم اللازمه لتطوير التعليم في جميع المراحل ..

أنت إنسان مبدع و عبقري حقيقي ..
بوركت ..
أهديك أسمى التحايا والأمنيات ..

صوفيا

٥:٥٧ ص  
Blogger سؤال said...

شكرا جزيلا أخي المفكر، فقد كنت أبحث عن الابستمولوجي في غوغل، وإذ بأول صفحة تظهر لي هي مونتك المفيدة، فعلا استفدت ما هو علم الابستمولوجي الذي كنت أبحث عنه، وكذلك علم الميثولوجي الذي لم أكن أبحث عنه :)

تحياتي

٢:٢٨ م  
Blogger Unknown said...

اشكركـ على هذا الاثراء المعرفي

على صفحتك ..

موضوع جميل وراقي فلكـ تاشكر من الاعماق

٥:١٥ ص  
Anonymous غير معرف said...

اسلام عليكم اود ان اشكر صاحب الموضوع بشكل خاص لان الكليمات الاخيرى اعطتني فكرة على ان هناك اناس يفهمون وهذا بسرف النظر على المعلومات الجميل فعلا (من لا يقرا لا يعلم) جزيل الشكر............

٧:٠٠ م  
Anonymous amal said...

موضوع جميل جدا ورسالة في حد داتها اتمن لصاحب المضوع دوام الصحة والعافية وشكرا..........(صحيح من لا يقرا لا يتعلم)

٧:٠٦ م  
Anonymous غير معرف said...

مقالة رائعة جدا و غنية
اود لو اطلعتني ان امكن على مسارك العلمي

١٠:٥٣ م  

إرسال تعليق

<< Home